• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العدل والعقلانية

العدل والعقلانية
◄أنّ العدل هو الميزان الذي يجب أن تعرض عليه الأفكار وهذا يعني أنّ أيّ فكرة نحملها ونعتقد بها إذا كانت تحمل في طياتها ظلماً وسوءاً لنا أو لأناس آخرين فانّها فكرة مرفوضة وتقترب الفكرة من الصواب بمقدار اقترابها من العدل. وأظن أنّ العدل لا يحتاج إلى تعريف فالإنسان بما يملك من قدرات عقلية فطرية يستطيع أن يدرك موضع العدل (في الفكر أو في السلوك) وعلى الرغم من أنّ الفيلسوف الفرنسي (غوستاف لوبون) أكّد على أنّ منشأ اختلاف العقائد الإنسانية وتكوينها مستند إلى اثنى عشر عاملاً، فلا أظن أن تباين هذه العوامل يفقد الإنسان قدرته على تحديد العدالة والظلم مع اننا لا ننكر تأثيرها في تقريب الإنسان وتوجيهه باتجاه أفكار معينة. فمنشأ الاختلاف في العقائد ليس في تحديد مواطن الظلم والعدل فالحقيقة واحدة لا تتجزأ والاختلاف يكمن في البحث عن الحقيقة وعدم الجدية. فالإنسان الجاد في البحث عن الحقيقة يتسع أفق تفكيره لكلِّ مجال يكتشفه. فالدليل العقلي هو مصباحه، بخلاف الإنسان النفعي الذي يحيط أفكاره بأفق المنافع الفورية ويغمض عينيه عن الحقيقة التي لا يحس بمنافعها الحاضرة فهذا الاتجاه لا يتفق وطبيعة الإنسان التواقة إلى التعقل والإدراك نعم في حالة واحدة يستطيع (البرجماتي النفعي) أن يرتفع إلى مستوى الإدراك الإنساني السليم وذلك إذا انكر وجود أيّ حقيقة وراء الحياة العملية، فكلّ فكرة لا تؤثر في الحياة فهي وهم باطل وهنا نصل إلى نقطة هي المحور في منشأ الاختلاف وانتشار البشر إلى اتجاهين مختلفين. هي الإيمان بوجود الله أو عدم الإيمان بوجوده فالذي يؤمن بالله إيماناً صادقاً لا يمكن أن يكون (برجماتياً) إلا أن يسقط العقل من حسابه وبذلك يخرج عن كونه إنساناً. نعم يستطيع النفعي أن يحافظ على إنسانيته ويحترم عقله وذلك في حالة واحدة أن ينكر وجود الله مع تقديم الدليل العقلي لإثبات عدم وجود شيء خارج المادة اما أن ينكر ما وراء المادة دون أن يقدم دليلاً على أفكاره بل يكتفي بالجواب انّ ذلك مسكوت عنه فهو التحجيم الحقيقي لقدرات العقل الذي يتبعه سقوط الإنسان في عالم الحيوانية، لأنّ المعيار الحقيقي هو الإدراك المبني على الاستدلال، فإذا أردنا الوصول إلى عدالة فكرية يجب أن نبدأ بهذه المسألة التي يترتب عليها الحكم على الكثير من المسائل الفكرية فالعقائد مهما كثرت فهي فروع لأصول ثابتة تنتهي إلى أصلين أو ما يزيد عليها بقليل. فالبحث السليم يجب أن يبدأ بالأصول الأوّلى التي تتفرع جميع المعتقدات منها سؤال يتوجه لكلِّ إنسان ولا يمكن لأيِّ إنسانٍ كما قلنا أن يغمض بصيرته عن الإجابة عنه هل تؤمن بالله أم لا..؟! والسؤال قبل تقديم الدليل يفترض أن يكون مجهولاً وإذا أردنا أن ننقل المجهول إلى المعلوم لابدّ أن نتبع طرق الاستدلال فنقول بماذا يستطيع الإنسان أن يكتسب معارفه ونجيب عن ذلك بثلاث طرق: 1-    استخدام الدليل العقلي المستند إلى البديهيات التي يؤمن بها العقل. 2-    الاستفادة من نتائج التجربة وتحليلها وفق موازين العقل. 3-    الاستفادة من بديهيات العقل دون الاستعانة بمقدمات استدلالية بل الاكتفاء بتوجيه النفس للمجهول شريطة أن تكون النفس فطرية خالية من المعوقات التي تؤثر سلباً على استخدام البديهية في عملية الاستدلال أو قد تؤثر على التشكيك بنفس (البديهية العقلية) وذلك ما نصطلح عليه بالفطرة. فباستخدم إحدى الطرق الثلاثة يمكن للإنسان أن ينقل ما هو مجهول عنده إلى معلوم يجزم به وهكذا كلّ الحقائق التي يؤمن بها الإنسان سواء كانت فلسفية أو طبيعية فانها مستندة إلى إحدى هذه الطرق الثلاثة فإذا استطعنا نحن المؤمنون بالله أن نثبت وجود الله بإحدى الطرق الثلاثة فلا يمكن للمنكر أن ينكر وجود الله إلا مع انكاره لكلِّ الحقائق التي ثبتت علمياً وعقلياً ومنطقياً ولا يسع له إلا أنكار البديهيات العلمية والموضوعية. 

   المصدر: مجلة بقية الله/ لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top